رمضان شهر الصبر
رمضان شهر الصبر
إن من عظيم نِعم الله علينا أنه قد حلَّ علينا شهر رمضان، شهر الصيام، ونزل بنا ضيف مكرم يستحثُّ الهِمم، ويستنهض القوى، وينفث فينا رُوح التقدُّم والتنافس، ويُنبه النفس؛ لتستقيظ من السبات العميق، وتصحوَ مِن غفلتها الطويلة، وتعود إلى خالقها بكل حماسة ونشاط وتيقُّظ.
إن هذا الشهر العظيم الذي يستهل علينا بخيراته وبركاته، جاءنا لتتطهر قلوبنا، وتتزكَّى أنفسنا، وتحيا أرواحنا، وتُغفر ذنوبُنا، وتُرفَع درجاتُنا، وتُمحى خطايانا، وتُعتَق رقابُنا من النيران، وإنه حلَّ علينا لتقوية الإرادة، وصدق العزيمة، والانتصار على النفس، والتغلب على الشهوات، والترفُّع بها عن الأحقاد والضغائن والكراهية والعناد، وقد حل علينا شهر رمضان بأيامه النبيلة، ولياليه الفاضلة، وهو شهر لا تنتهي نفحاتُه، يحمل في طيَّاته الخيرات والبركات، والعطايا والمنح.
رمضان نعمة عظيمة، وخير كبير، ومنَّة جسيمة من الله عز وجل لا نقدِّر قيمتها، ولا نحصي خيراتها، لا يعرف قدرَها إلا الصالحون، ولا يغفل عنها إلا الطالحون، فمن أدركها واغتنمها، فقد حاز خيرات كثيرة وبركات عظيمة.
شهر رمضان شهر الصبر:
لا بد أن يتربَّى المسلم في شهر رمضان على قيمة الصبر، وهي من القيم والأخلاق التي عليها مدار السلوكيات، ومن أجل ذلك سمي هذا الشهر بشهر الصبر.
عن أبي عثمان أن أبا هريرة كان في سفر، فلما نزلوا أرسلوا إليه وهو يصلي ليطعم، فقال للرسول: إني صائم، فلما وضع الطعام وكادوا يفرغون، جاء فجعل يأكل، فنظر القوم إلى رسولهم، فقال: ما تنظرون؟ قد أخبرني أنه صائم، فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر"، فقد صمت ثلاثة أيام من كل شهر، وأنا مفطرٌ في تخفيف الله، وصائم في تضعيف الله"[1].
وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهر الصبر لِما يشتمل هذا الشهر من أنواع الصبر: إن المسلم يصبر على فِعل الطاعات، ويصبر على ترْك المعصيات، ويصبر على الجوع والعطش، ويصبر على قيام الليل، وسماع القرآن في التراويح، ويجهد نفسَه في تلاوة القرآن الكريم.
فشهر رمضان كله صيام وقيام، وصلاة وتلاوة قرآن، وبر وإحسان، وجود وإطعام، وذكر ودعاء، وتوبة واستغفار، ومثل هذه الأعمال تحتاج إلى الصبر؛ ليقوم بها الإنسان على أكمل الوجوه وأفضلها.
وكذلك لا بد لكل مسلم في شهر رمضان أن يكف لسانه عن اللغو، والسب والشتم، والكذب والزور، والصخب والجدال، ولا بد أن يهتم بمنع نفسه من اقتراف المعاصي والآثام، وكل ذلك يحتاج إلى الصبر؛ حتى يصون نفسه من الوقوع في المعاصي من أي نوع كانت.
والصائم خاصة يروِّض نفسه، ويربيها على ترك الطعام والشراب والشهوة، وأنه يشعر ألم الجوع والعطش في نهار رمضان، ويصارع نفسه فيما تشتهيه؛ حتى يتغلب على ألم الجوع والعش والشهوة، فإذًا شهر رمضان كله شهر الصبر، وشهر يربي المسلم على الصبر.
الاهتمام بالصبر في شهر رمضان:
ما أحوج المسلم في هذا الشهر إلى الصبر في طاعة الله والاجتهاد في القرب من الله، فما هي إلا أياما معدودات؛ كما قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، يعني أن هذه الأيام المعدودات ستنتهي مع انتهاء الأيام القليلة المعدودة من ثلاثين يومًا من شهر رمضان، وكذلك تنتهي مشقتها، ويبقى الأجر والثواب مدَّخرًا عند الله عز وجل لكل من صبر وعمِل، تبقى الحسرة والندامة يتجرَّعها مَن فرَّطَ فيها وقصَّر.
الصوم والصبر:
إن العلاقة بين الصوم والصبر واضحة بيِّنة، وهو طريق وجيز إلى التخلق بخُلق الصبر، ولقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار الصوم؛ لأنه أفضل الطرق وأقواها مما ينبغي للمسلم أن يسلكها حتى يتعوَّد على الصبر، وهي طريق الصوم، لا يعني بذلك أن الصوم يسبب المشقة والتعذيب للنفس، بل المراد بذلك ترسيخ تزكية النفس، وتطهير القلوب حتى يتربع المسلم على مقام التقوى والمراقبة لله عز وجل، ولذا خصَّ الله أجره من عنده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعَف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف؛ قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي"[2].
يعني أن الصوم سبب قوي في إزالة عوائق النفس وحُجبها، وإمساكها عن خسيس العادات، وحبسها عن الشهوات واللذات، وحبسها عن المألوفات، ولذا جعل الصوم في الأحاديث النبوية الشريفة جنة من النار، وجنة من الشهوات، وجنة من الآثام، وجُنة من السيئات، ووقاية من الشيطان، ووقاية من عذاب الله، ووقاية من آفات الصدر والقلب.
وردت الرواية في موضع آخر باختلاف الألفاظ في صحيح ابن خزيمة: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي، ولخلوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة عند لقاء ربه"[3].
فاللذة عامة لجميع أنواع اللذات، وخص منها لذة الزوجة؛ لأنها لذة حلال، يمتنع عنها الصائم طاعةً لربه جل وعلا مع تعلُّق قبله بها.
الصبر على قيام رمضان:
المراد بقيام رمضان التراويح التي يُصليها المسلم في المسجد مع المسلمين في رمضان بعد صلاة العشاء، وهي صلاة طويلة تحتاج إلى الصبر، وعلى المسلم أن يُصبِّر نفسه على صلاة التراويح، ولا يكن همُّه الانتهاء منها، فيقصد للصلاة إلى الأئمة الذين يعجِّلون في القراءة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رغَّب في هذه الصلاة وإكمالها مع الإمام، فيقول صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان مع إمامه حتى ينصرف، كُتب له قيام ليلة" [4].
الصبر على قراءة القرآن:
وكان دأب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان أنه يدارس جبرائيل القرآن، وكان السلف من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة الكبار، كان لهم اهتمام بالغ بالقرآن في رمضان، فكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على تلاوة القرآن؛ حتى يترك بعضُ المحدثين اشتغالَهم بالحديث النبوي الشريف، فكل يختم القرآن حسب قدرته، فلبعضهم ختم في كل يوم، ومنهم في كل ثلاثة، ومنهم من كان يختم في كل سبع، فكل ذلك يطلب الصبر ومجاهدة النفس وهمة وعزيمة من العبد.
الصبر على الاعتكاف:
الاعتكاف مشروع ومسنون في العشر الأواخر من رمضان، وهو لزوم المسجد للتفرغ لعبادة الله عزوجل وطاعته طيلة أيام العشر، حتى إن المعتكف في العشر الأواخر لا يخرج من المسجد إلا لقضاء الحوائج الضرورية، ولا ريب أن هذا العمل يحتاج إلى الصبر العظيم؛ لأن المعتكف ينقطع عن الدنيا وعلائقها، ويترك بيته وأهله وعمله وأمواله وأشغاله، ولا ينشغل إلا بطاعة الله من ذكر وقراءة، وصلاة ودعاء واستغفار، ويتجنب تمامًا ما لا يعنيه من حديث الدنيا، ويترك اللذيذ من الطعام والمنام، ولا يخرج من المسجد لا لبيع ولا شراء، ولعيادة مريض ولا لشهود جنازة، وهذا يدل تمامًا على عِظم هذه العبادة.
الصبر على أذى الناس:
وإن النبي صلى الله عليه وسلم رغَّب المسلم في هذا الشهر في الصبر على أذى الناس وتطاولهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا كان يوم صوم أحدكم، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم"[5]، لا يقدر على ذلك إلا الصابر الذي قهر نفسه لأجل رضا الله تعالى، وذلَّت نفسه لعظمته.
الصبر على المعاصي بأنواعها:
على المسلم أن يجتنب المعاصي التي يستعد لها أهل الشر في هذا الشهر؛ حيث يهمون بإفساد صيام الناس بما استطاعوا.
وخلاصة القول:
إن هذا الشهر العظيم الذي حلَّ علينا، يحتاج فيه المسلم إلى الصبر في الطاعات والعبادات بمختلف أنواعها من الصيام والقيام، والاعتكاف، وكف الأذى، وتحمُّل شدائد الناس وأذاهم من السب والشتم، واللغو واللمز، وهو شهر يربي المسلم على ترويض نفسه على الصبر في الطاعات واجتناب المعاصي، وفَّقنا الله لما يحب ويرضى، واجعل اللهم آخرتنا خيرًا من الأولى.
[1] الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، حديث: 6898.
[2] مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، باب فضل الصيام، حديث: 1511.
[3] ابن خزيمة، صحيح ابن خزيمة، باب ذكر إعطاء الرب عز وجل الصائم، حديث: 7981.
[4] محمد بن عيسي الترمذي، سنن الترمذي، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، حديث: 608.
[5] صحيح البخاري، باب: هل يقول: إني صائم إذا شتم، حديث: 1904.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/134073/#ixzz5vXw6KbbX
No comments:
Post a Comment