Saturday, 20 August 2016

الإسلام والأمن العالمي، مفتي رفيع الدين حنيف القاسمي، وادي مصطفي شاهين نغر، حيدرآد ، هذه مقالة جاءت طبعها في مجلة شهيرة صادرة عن دار العلوم ديوبند باسم الداعي.

ISSN: 2348 – 9472 (Online)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة  1437 هـ = أغسطس – سبتمبر 2016م ، العدد : 11 ، السنة : 40

دراسات إسلامية

الإسلام والأمن العالمي
بقلم: الأستاذ رفيع الدين حنيف القاسمي (*)



إنما جاء الإسلام لنشر التشريعات والتوجيهات الإسلامية التي تضمن للإنسانية الأمن والسلام على وجه المعمورة، ولتحقيق العدالة في هذا الكون قاطبة، من غير تفريق بين جنس وجنس آخر، جاء الإسلام ليغرس السلام، السلام الإيجابي الذي يرفع الحياة ويرقيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكل شيء، ويدع المبادئ العليا تُداس في سبيل العافية والسلامة، السلام النابع من التناسق والتوافق، المؤلف من الطلاقة والنظام، الناشئ من إطلاق القوي والطاقات الصالحة البانية، ومن تهذيب النزوات والنزعات، لا من الكبت والتنويم والخمود، السلام الذي يعترف للفرد بوجوده وبنوازعه وبأشواقه، ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها، وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها، وبالدين والخلق والمثل، كلها في توافق واتساق.
     * إن الإسلام ارسخ في قلوب العباد العقيدة الصافية التي يربط بينه وبين ربه مباشرة، لا يدخل فيها كاهن ولا قسيس، فيحس الفرد أنه يركن إلى القوة التي ليس فوقها قوة، والتي لا تعدلها قوة، وهي أبدا حاضرة، وفي متناوله أن يركن إليها ويستعين منها، فقال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(1). وفي ظل هذه القوة تتضاءل قوة الأرض جميعا، وتتساقط أغشية العظمة الكاذبة، والجبروت الزائف.
     * علاوة على ذلك فإن الإسلام لا يكل الإنسان إلى عقيدته الروحية فقط، بل يقف بجنبه عند توفير الضمانات للأمن والسلام، فشرع الإسلام لكل فرد الأمن والسلامة من اعتداء فرد مثله عليه ، أو اعتداء حاكم عليه، فيشعر بأنه يعيش في وسط يحبه ولا يعاديه، ويحرص على ذاته وماله وعرضه فقال –صلى الله عيله وسلم- «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(2). وقال: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه وماله»(3). و«الله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»(4). وليس للحاكم عليه من سلطان إلا في حدود القانون، القانون الإلهي الذي يخضع له هو كما يخضع له السلطان على حدٍ سواء،  والذي لا يستمد من هوى الحاكم، ولا هوى طبقة ولا أمة، ولا يسن ليحقق مصلحة لحاكم أو لطبقة أو أمة؛ إنما شرعه الله تعالى إله الجميع ومالك الجميع لمصلحة الجميع، والخضوع له خضوع لله، لا لعبد من عباده، فوفّر الإسلام للإنسان في  قانونه كل الضمانات التي يحفظ عليه حياته وماله وعرضه، فلا تمس إلا بحق الله فيها، ويحميه من السخرية منه، أو التجسس عليه أو اغتيابه، أو أخذه بالظنة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾(5).
     ويضمن للإنسان الحرية في داره  فلا يتسورها عليه أحد، ولا يدخلها بغير إذنه أحد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(6).
     حتى الجريمة لا يجوز إثباتها بتسور البيوت والتجسس على الناس في مأمنهم، وقد روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - كان يَعُس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنَّى، فتسوَّر عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية. فقال: وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ؛ إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث: قال: «ولا تجسسوا» وقد تجسست. وقال: ﴿وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا﴾ (سورة البقرة، الآية:189) وقد تسوَّرت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن وقال الله تعالى: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا﴾ (سورة النور، الآية:27) قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه(7).  وهكذا لم يجد عمر أنه يملك عقابه؛ لأن «الإجراءات باطلة».
     * فأراد الإسلام أن تكون العلاقة بين الإنسان والآخر، بين الفرد والمجتمع علاقة الود والرحمة، وعلاقة التضامن والتعاون، وعلاقة الأمن والسلام، ولذلك قرّر قاعدة التناسق بين الحقوق والواجبات، والتعاون بين المغانم والمغارم، والتوازن بين الجهد والجزاء فيما بينهم، يبدأ الإسلام ببناء المجتمع في ضمائر الأفراد والجماعات، ويغرس بذرة الحب، الحب الإنساني الخالص، والرحمة الإنسانية المبرأة، إنه يردّ الناس إلى ذكرى نشأتهم الأولى من نفس واحدة، ويوقظ في وجدانهم شعور النسب والقربى، فإذا رقت جوانحهم بهذه المشاعر اللطيفة كانوا إلى السماحة أقرب، وإلى السلام أدنى، وهانت أسباب الخلاف والنزاع، وسارت عجلة الحياة في يسر ورفق وسماح ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(8). هكذا تنتظم البشرية كلها في نسب واحد، وفي إله واحد، وتختفي المنازع والفوارق، لتبرز تلك الصلة الكبرى الوثيقة العميقة التي تشمل الناس جميعا على اختلاف الملل والنحل، والأجناس والألوان واللغات والأقوام.
     * فجعل الإسلام المؤمنين أقرب رحما بعضهم إلى بعض بطبيعة الحال، بحكم أخوتهم في الله، والتقائهم في العقيدة التي يعدها الإسلام أوثق من روابط الدم، ووشائح النسب «إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(9)... وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي»(10). وأولئك يهتف بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» وينوط الإيمان فيهم بالحب، لا يفرق بين المرء وأخيه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ويحرم عليهم الخصومة أكثر من ثلاث ليال يفثؤُن فيها غضبُهم ثم يثوبون إلى المودة والقربى: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، والأمن والسلام والرحمة ليست مطلوبة بالمسلمين وحدهم؛ ولكنها للآدميين جميعا: «ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء»(11). بل يخطو الإسلام بوجدان الرحمة خطوته الكبرى فيتجاوز بها عالم الإنسان إلى عالم الأحياء، فيشيع في القلب البشري بشاشة ذلك الوجدان، ورقته وانعطافه تجاه كل ذي حياة، يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟  قال: نعم ، في كل كبد رطبة أجر»(12).
     * ويحقق الإسلام الحب والصفاء في النفوس والقلوب، فإنه يأخذ المسلمين بآداب نفسية وآداب اجتماعية تعين على هذه الغاية، وتمنع أن تثور الأحقاد في النفوس، أو تغمر البغضاء القلوب، ولذلك يكره الكبر والخيلاء ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(13). وقال في موضع آخر: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾(14). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد»(15).
     والإسلام يلحظ في هذا طبائع الناس، فهي تكره المتكبرين، وتبغض المختالين، وتضيق بالمفتخرين المتباهين، وتحمل الغيظ والحنق والتبرم بهؤلاء الناس، ولو لم يقدموا لأحد مساءة شخصية؛ لأن مجرد تظاهرهم على هذا النحو يثير في الآخرين كبريائهم، ويحفزهم إلى الرد عليهم بكرههم والتبرم بهم دون شعور.
     * إن الإسلام يراعي أدق مشاعر النفس، فينهى أن يتناجى اثنان في حضرة ثالث لا يشترك في الحديث: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يؤذيه»(16). وهو أدب نفسي عال لطيف.
     ومن هذا الباب النهيُ عن المنّ بالمعروف والصدقة، فالمنّ خلق خسيس في ذاته، مؤذٍ لكرامة الآخرين كذلك، ولهذا فهو يمحق الصدقة ويذهب بالمعروف، ويحلّ النقمة والموجدة محل الشكر والاعتراف: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْـمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(17).
     ولا يقف نبي الإسلام عند الحدود السلبية في هذه الآداب؛ بل يدفع إلى الصورة الإيجابية منها لإضافة شعور الود وإحساس الألفة، فهو يدعو إلى إشاعة الكلمة الطيبة بين الناس: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(18).... ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾(19). ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾(20)... وإلى إفشاء السلام في كل مكان ولكل إنسان، على معرفة أو على غير معرفة، تأليفا للقلوب، وإشاعة للطمأنينة: «يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد، والقليل على الكثير»(21)،. وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام أفضل؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»(22). وإلى مقابلة السيئة بالحسنة ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(23)... ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(24).
     * وهو يدعو إلى الصفح عن المساءة وضبط النفس عند الغضب، وجهادها لتعفو وتغفر، وينعدم ما بها من انفعال، ويحل محله السماح ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(25).... ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(26)... ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾(27). ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.
     * وهو يدعوا إلى السماحة في المعاملة بيعا وشراء واقتضاء: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى»(28).  وإلى الأمانة في التبادل: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾(29). وإلى النصح في التجارة: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما»(30).
     كذلك ينأى بالمسلمين عن مثيرات الأحقاد ومورثات الضغائن كمجالس القمار، حيث ترتفع درجة الأحقاد في النفوس، وتهبط تبعًا للكسب الحرام والخسارة الوبيئة، وكمجالس الشراب حيث لا ضابط للنزوات والهفوات من عقل أو إرادة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾(31).
     هكذا قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بدوره في تصفية جو الحياة، وإشاعة المودة والألفة في النفوس، وساعد في بناء السلام في المجتمع وفي العالم كله في عالم الواقع وعالم الشعور.
     * ثم يربط  الإسلام الأفراد في المجتمع بعد ذلك برباط المصلحة المشتركة، ويقوي في نفوسهم شعور التعاون والتضامن، وشعور الواجب المفروض عليهم جميعا، لصالحهم جميعا، ويقيم حدود الحرية الفردية عند المصلحة المشتركة، ويشعر الجميع بأن هناك أهدافًا مشتركة لا ينهض بها الفرد وحده، ولا بد من التعاون لبلوغها بين الجميع: «كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال بيته ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته»(32). ... (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»(33).
     * والجماعة مسؤولة عن رعاية الضعاف فيها وكفالتهم وحمايتهم في أنفسهم وفي أموالهم ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾(34).... ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(35). ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾(36). وفي الحديث النبوي الشريف: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث... وإن أربع فخامس أو سادس»(37).... «من كان معه فضلُ ظهر فليعد به على من لا ظهر له؛ ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له»(38).
     * ولتحقيق مبدإ التعاون حرم الربا لما يثيره من الأحقاد في الجماعة، فليس يخنق النفس أكثر من أن يلجأ المحتاج إلى ذي المال، فينتهز الفرصة السانحة والضرورة المحوجة، ويفرض على أخيه ضريبة حراما، وثمنا للمال يتقاضاه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْـمَسِّ﴾(39).... ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾(40).
     * إن المال ينبغي أن يعطى المحتاجين قرضا بلا فائدة، لتشيع في الجماعة روح المودة والرحمة، وروح التعاون والتضامن: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾(41). ولتكن السماحة طابع الاقتضاء بلا تعسر على المدين ولا إرهاق، فلذلك هو اللائق بجماعة الإنسان.
     * ولتحقيق ذلك المبدإ كذلك حرم الإسلام الاحتكار، ولعن المحتكر، فهم ينتهزون الفرص، يستوفون أرباحهم الفاحشة من دماء المستهلكين فيثيرون حفيظتهم ويشيعون في الجماعة روح التباغض، ويقتلون بذور التعاون: «من احتكر فهو خاطئ»(42).  ... وحرم الغش وتطفيف الكيل والميزان: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾(43). «من غش فليس منا»(44)... وحرم أن يبخس الناس أشياءهم ويعطوا دون قيمتها التي تستحق، وعد ذلك فسادا في الأرض ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(45).
خلاصة القول:
     إن الإسلام أمر بتعليماته، ومبادئه الإسلامية والأخلاق الفاضلة، التي تضمن للإنسانية على هذه المعمورة الأمن والاستقرار، والطمأنينة، والحيوية في جميع نواحيها، فلا يبغض أحد أحدًا، ولا يحسد أحد أحدًا، ولا ينظر أحد إلى أحد بعين الحقد والكراهة، فتفشو السلامة والأمن في أرجائها، فقضى على الصراع القائم بين البشر، ووصل بهم إلى ذروة المودة والوئام، والتضامن، وأخرجهم من واقع الضيق الذي يحي الإنسان حياته في دائرته، فأخرج الفرد، والقوم من جحر الغايات الصغيرة القريبة، ليطلقها في مجال الأهداف السامية العليا.. وأطلقها من مضيق العمر الفردي القصير إلى فضاء الحياة العامة الكبرى، ومن مجال النظرية أو القومية الضيقة إلى آفاق الإنسانية الرفيعة الشاملة، فشعر بذلك الإنسان أنه لا يعيش لذاته، وإنما يعيش للإنسانية جميعا، وجعلت تحس الجماعة لا تحيا لهذا الجيل وإنما تحيا للبشرية قاطبة، وأوصى الإنسانية أنهم مكلفون أن يجاهدوا في الله لتصبح كلمة الله هي العليا، ولتصبح الأرض سلاما لا فتنة فيها، وليصبح الناس عبيدًا لله وحده: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾(46). وهم مكلفون حماية الضعفاء ودفع الأذى عنهم، ومنحهم الأمان ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾(47).
     وهم مكلفون أن يغيروا المنكر، يقع من حاكم أو من رعية، من فرد أو جماعة، فهم جند الله في الأرض، وبهم صلاحها، وعليهم تبعة إزالة الآثام منها: «من رأى منكم منكرا فليغيره»(48)... وإلا حل بهم الدمار وحق عليهم العذاب: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه»(49).  وفي هذ الجو يستطيع الفرد أن يحقق ذاته، ويحقق رغبة الاستعلاء في نفسه، دون أن يضطر في ذلك للنزاع الفردي والشحناء، وإلى العراك الداخلي والبغضاء.
*  *  *
الهوامش:
(1)      البقرة: 186.
(2)      الترمذي: حديث: 2515، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(3)      مسلم: باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، حديث: 2564.
(4)      البخاري: باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث: 5670، ط: دار ابن كثير، بيروت.
(5)      الحجرات: 11-12.
(6)      النور: 27.
(7)      مولانا يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة: تسور عمر على مغني بيته: 3/149.
(8)      النساء: 1.
(9)      سورة الحجرات: 10.
(10)    مسلم: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، حديث: 2586.
(11)    أبوداود: باب في الرحمة ، حديث: 4943، ط: دارالكتاب العربي، بيروت.
(12)    البخاري: باب فضل سقي الماء، حديث: 2234.
(13)    لقمان: 18-19.
(14)    سورة الاسراء: 37.
(15)    أبوداود: باب في التواضع، حديث: 4897.
(16)    البخاري: باب لا يتناجي اثنان دون الثالث، حديث: 5930.
(17)    البقرة: 264.
(18)    الإسراء: 53.
(19)    البقرة: 83.
(20)    النساء: 86.
(21)    البخاري: باب تسليم القليل على الكثير، حديث: 5877.
(22)    البخاري: باب إطعام الطعام من الإسلام، حديث: 12.
(23)    فصلت: 34.
(24)    البقرة: 63.
(25)    الشوري: 43.
(26)    التغابن:14.
(27)    آل عمران: 134
(28)    البخاري: باب السهولة والسماحة في الشراء، حديث: 1970.
(29)    البقرة: 283.
(30)    البخاري: باب إذا البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، حديث:2004.
(31)    سورة المائدة: 91.
(32)    البخاري: باب العبد راع في مال سيده، حديث: 2419.
(33)    البخاري: باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه.. ، حديث: 2361.
(34)    الضحي: 9-10.
(35)    الضحي: 9-10.
(36)    الماعون:1-3.
(37)    البخاري: باب السمر مع الضيف والأهل، حديث: 577
(38)    مسلم: باب استحباب المؤاساة بفضول المال، حديث: 1728.
(39)    البقرة: 275.
(40)    البقرة: 278-279.
(41)    البقرة: 280.
(42)    مسلم: باب تحريم الاحتكار في الأقوات، حديث: 1605.
(43)    المطففين: 1-3.
(44)    الترمذي: باب كراهية الغش في البيوع، حديث: 1315.
(45)    سورة: 85.
(46)    الأنفال: 39.
(47)    النساء: 75.
(48)    مسلم: باب بيان كون النهي عن المنكر...حديث: 49، ط: دارالجيل، بيروت.
(49)    ابن ماجه: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث: 4005، ط: دارالفكر، بيروت.
*  *  *


(*)          وادي مصطفى، شاهين نغر، حيدر آباد.

No comments:

Post a Comment

مولانا غیاث احمد رشادی، امت کا ایک دھڑکتا دل، MOLANA GAYAS AHNMED RASHAdI

  مولانا غیاث احمد رشادی، امت کا ایک دھڑکتا دل رفيع الدين حنيف قاسمي، اداره علم وعرفان ، حيدرآباد در نایاب، یگانہ روزگار ، ممتازفعال، مت...