Sunday 25 December 2016

مقالة طبعت ونشرت في مجلة الداعي الشهيرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند باسم " من مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم " مفتي رفيع الدين حنيف القاسمي mufti rafiuddin haneef qasmi



مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول  1438 هـ = ديسمبر 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 41

دراسات إسلامية

من مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم:  الأستاذ/ رفيع الدين حنيف القاسمي (*)



     كلّ يدّعي منا أنه يحب الرسول –صلى الله عليه وسلم- ويكرمه ويجلّه، ويتبنّى أسوته. وحين نقوم بالموازنة بين قوله وعمله نجد بينهما بونًا شاسعًا، وهو يختار لنفسه المناهج الأرضية، والقوانين الوضعية تاركًا سنن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهديه وأسوته، ونابذًا لها وراء ظهره، سلوكه المأساوي الشنيع هذا ينقض دعواه بأنه يكرم سيد البشرية، ويتأسى به في كل قوله وفعله. والحب الصادق له مقتضيات، الحب الصادق له شروط، فمن طبقها في حياته فهو محب صادق حقًّا، فيقول الشاعر : من يدعي حب النبي –صلى الله عليه وسلم- ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء:
     تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس بديعُ
     لو كان حبّك صادقًا لأطعته
إن المحب لمـن يحب يطيــع
     إن من أحبّ شيئًا آثر موافقته؛ وإلا لم يكن صادقًا في حبه، وكان مدعيًا فقط، فالصادق في حب النبي –صلى الله عليه وسلم- من تظهر علامة ذلك عليه، قد تحدث علماء الأمة عن علاماته، فيقول القاضي عياض: «ومن محبته نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمنى حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه». ويقول الحافظ ابن حجر: «ومن علامة الحب المذكور أن يُعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه، أو فقد رؤية النبي –صلى الله عليه وسلم- أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد؛ بل يأتي مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).
أولًا : لزوم محبته صلى الله عليه وسلم:
     ومن مقتضيات حب النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يكون حبه أزيد من حبه لأولاده وأمواله وسائر دنياه. فقد قال الله -عز وجل-:﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰسِقِينَ(2). فيكفي هذه الآية الكريمة دليلًا على وجوب حب الرسول –صلى الله عليه وسلم- أكثر من كل شيء في الــدنيا، وإلا تعــرضـوا لإيعـــاد الله -عز وجل- بقوله «فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِي الله بأمْرِه» وقال عنهم: وهم الذين حادوا عن طريق الهداية وسلكوا طريق الغواية.
     وهناك أحاديث أخرى تشير إلى وجوب حب الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس رضي الله عنه: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(3).
     وكذلك عن زهرة بن معبد عن جده قال: كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو آخـذ بيــد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا نفسي. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه»، فقال عمر: فلأنت الآن والله أحب إليّ من نفسي فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «الآن يا عمر»(4).
     ثانيًا: الاقتداء به والاستنان سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله(5). لا بد للمحب أن يقتفي آثاره –صلى الله عليه وسلم- ويتبع هديه، ويؤثر شرعه ويقدمه على هوى نفسه.
ثانيًا: وجوب طاعته –صلى الله عليه وسلم-:
     إن الله -عز وجل- جعل طاعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- طاعته، ووعد على طاعته –صلى الله عليه وسلم- الثواب الجزيل، والأجر الوفير، كما أوعد على مخالفته بسوء العقاب، فأوجب امتثال أمره واجتناب نواهيه، فقال الله عز وجل: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاعَ الله»(6). كما جاء في الكتاب المجيد: ﴿وَمَا اٰتٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهٰكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(7). وقال السمرقندي في ذلك: أطيعوا الله في فرائضه والرسول في سننه. وقيل: أطيعوا الله فيما حرّم عليكم، والرسول فيما بلغكم. ويقال: أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية، والنبيّ بالشهادة له بالنبوة. وإليكم بعض الأحاديث الواردة في وجوب طاعته، فقد ورد عن أبي موسى -t- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا،  فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء! فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق»(8). وفي حديث آخر: «كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة..... فالدار الجنة، والداعي محمد-صلى الله عليه وسلم-. فمن أطاع محمدًا-صلى الله عليه وسلم- فقد أطاع الله ومن عصى محمدًا –صلى الله عليه وسلم- فقد عصى الله ومحمد –صلى الله عليه وسلم- فرق بين الناس»(9).
ثالثًا: وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه:
     ومن مقتضى حب النبي –صلى الله عليه وسلم- وجوب اتباعه، وامتثال أوامره، والاقتداء بهديه في الأمور كلها؛ لأن المحب لمن يحب يطيع ويسعى إلى فعل ما يحبه حبيبه، واجتناب ما يبغضه، فقد قال الله عزّ وجل : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ(10).  يعني يغفر الله لهم إذا اتبعوه وآثروه على أهوائهم، وما تجنح إليهم نفوسهم، وقال في موضع آخر:  ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(11). يقول ابن كثير في تفسير الآية: «يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول –صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أي: إذا حكموك يطيعوك في بواطنهم فلا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادوا له في الظاهر والباطن، فيسلموا لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»(12).
     كان الصحابة والسلف الصالح حريصين على اتباع سنن الرسول –صلى الله عليه وسلم- من غير أن يبحثوا عن الدلائل.
     وفي رواية البخاري أن قومًا من الأنصار أسرعوا في تولية وجوههم نحو الكعبة وهم ركوع في مسجد «قبا» عند ما سمعوا تحويل القبلة(13)، ولم يترددوا في ذلك؛ بل بادروا بالتوجه إلى حيث توجه الحبيب.
     كذلك في رواية البخاري لـمّا حرمت الخمر، ونادى المنادي «ألا إن الخمر قد حرمت» فأهرقوها، فجرت في سكك المدينة(14). تم ذلك كله من غير نقاش، يا له من استلام وانقياد؟
     وعن عمر رضي الله عنه- أنه جاء إلى الحجر فقبله، فقال: «إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقبّلك ما قبلتك»(15).
     ورئي عبد الله بن عمر رضي الله عنه يدير ناقته في مكان فسُئل عنه فقال: «لا أدري إلا أني رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فعله ففعلتُه»(16).
     وهذه سيرة الصحابة والصالحين من الأمة المحمدية يسيرون سيرته في الفرائض والواجبات، والسنن، حتى في المباحات وشهوات النفس، و قال أنس حين رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء من حوالي القصعة: «فما زلت أحبّ الدباء من يومئذ». وهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وابن جعفر-y- أتوا سلمى وسألوها أن تصنع لهم طعامًا مما كان يعجب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. وكان ابن عمر-t- يلبس النعال السبتية (وهي من جلود البقر المدبوغة بالقرظ) ويصبغ بالصفرة إذ رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك نحوه(17).
     ويقول الحسن بن أبي الحسن: «عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة».( المرجع السابق) وقال سهل التستري: «أصول مذهبنا ثلاثة: الاقتداء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأعمال». وجاء في تفسير قوله تعالى: «والعمل الصالح يرفعه»(18)، أنه الاقتداء برسول الله –صلى الله عليه وسلم-(19).
     وهذا أحد السلف وهو الجنيد بن محمد يقول: «الطرق إلى الله  تعالى- كلها مسدودة على الخلق؛ إلا من اقتفى أثر الرسول –صلى الله عليه وسلم- واتبع سنته ولزم طريقته؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا»(20)،(21).
رابعًا: ترك مخالفة أمره، وتبديل سنته:
     ومن مقتضيات حب الرسول أن يتبع سنته، ويتأسى بسيرته، ويقتدي بهديه، فمخالفة أمره وسننه بدعة وضلالة، يستحق العبد على ذلك العذاب والخذلان من الله عزّ وجل. فقال الله - عز وجل-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22). وفي حديث الرسول –صلى الله عليه وسلم- «ليُذادَنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ، فأناديهم ألا هلموا فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم،  فأقول: ألا سحقًا سحقًا»(23).
     وعن انس -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»(24).
خامسًا: كثرة ذكره  له – صلى الله عليه وسلم-:
     ومن مقتضيات حبه كثرة ذكره، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره، وازداد شوقه إلى لقائه، فكل محب يحب لقاء حبيبه، ويرغب في صحبته، ويحرص على مرافقته في الدنيا والآخرة. ألا ترى كيف فرح الأنصار بمقدم النبي –صلى الله عليه وسلم-، وكانوا يخرجون كل صباح إلى الحرة منتظرين قدومه –صلى الله عليه وسلم- ويجلسون هناك حتى تشتد حرارة الشمس فيعودون إلى بيوتهم، ويصف البراء بن عازب-t- فرح أهل المدينة بمقدم الحبيب –صلى الله عليه وسلم- إليهم بقوله: «فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله»(25).
     وهذا صحابي جليل، يذكر موته وموت الحبيب –صلى الله عليه وسلم- فيخشى حرمانه من النظر إلى وجهه الكريم في الجنة. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليّ من نفسي ، وإنك لأحب إليّ من أهلي ومالي ، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردّ عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى نزل جبريل - عليه السلام - بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصّٰلِـحِيْنَ)(26).
     قال ابن القيم: «لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبّه، تضاعف حبه وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقرّ لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقرّ لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه ،فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه(27).
خامسًا: تعظيمه وتوقيره، وإظهار الخشوع له:
     ومن مقتضيات حب الرسول –صلى الله عليه وسلم- تعظيمه وتوقيره والخشوع له، قال إسحاق التُجيبي: «كان أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرّت جلودهم وبكوا، وكذلك كثير من التابعين، ومنهم من يفعل ذلك محبة له وشوقًا إليه، ومنهم يفعله تهيّبًا وتوقيرًا»(28).
     ولقد حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  على تعليم الناس تعظيم النبي –صلى الله عليه وسلم- ميتًا كتعظيمه حيًا، وذلك من تمام وفائه للنبي –صلى الله عليه وسلم-. روي البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-(29).
     وقال مصعب بن عبد الله: «كان مالك إذا ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك  على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون» وذكر مالك عن محمد بن المنكدر: - وكان سيد القراء- «لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه»، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد - وكان كثير الدعابة والتبسم- فإذا ذكر عنده النبي –صلى الله عليه وسلم- اصفرّ لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة»(30). فمن تعظيمه –صلى الله عليه وسلم- أن لا يذكر اسمه مجردًا؛ بل يصف بالنبوة أو الرسالة، وهذا كان أدب الصحابة في ندائه فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره، فلا يقال «محمد» ولكن «نبي الله» أو «الرسول» ونحو ذلك، كذلك كلما يذكر اسمه يصلى ويسلم عليه.
سادسًا: شفقته ورأفته أمته:
     ومن مقتضيات حب النبي –صلى الله عليه وسلم- شفقته على أمته ونصحه لهم، وسعيه في مصالحهم، ورفع المضارّ عنهم، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أمته، ولقد لاقى الرسول الأذى والكيد من المشركين في مكة والطائف، وقال الله عز وجل:﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(31). وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعٰلَمِينَ(32).
سابعًا: محبته لمن أحب النبي –صلى الله عليه وسلم- وبغض من أبغضه:
     ومن مقتضيات حب النبي –صلى الله عليه وسلم- محبته لمن أحب النبي –صلى الله عليه وسلم- من  أهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار، ومعاداة من عاداهم وبغض من أبغضهم، فمن أحبّ أحدًا أحب من يحب، فمن إجلال أهل بيت النبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر مناقبهم ومحاسنهم والذود عنهم،  والدعاء لهم، كما قال تعالى: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْـمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى(33).
     فمن محبة الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ذكر محاسنهم وفضائلهم، والكف عما شجر بينهم، ويخشى الخسارة لمن يلمز أصحابه ويلومهم في الدنيا والآخرة، ففي الحديث «لا تسبوا أحدًا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه»(34).
     ومن مقتضى حب النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يبغض من أبغضه الله ورسوله، وأن يعادي ويجانب من عاداه وجانبه، من مخالف السنة والمبتدع في دينه، فيقول الله عز وجل: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ(35). وهؤلاء أصحابه –صلى الله عليه وسلم- قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاة الله، لـمّا خالفوا الله والرسول في مواقع الحرب والسلم.
خلاصة القول:
     نحن الآن قد أعرضنا كثيرًا عن اتباع سنن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وتعظميه وتوقيره، والمحبة القلبية الخالصة له، وعدلنا عن سيرته وسننه، وتشبثنا بأذيال عظماء الشرق والغرب، ونهجنا منهجهم في القيادة والسياسة، وفي الفكر والفلسفة، وفي الأدب والأخلاق، ما اكتفينا بذلك؛ بل أصبحنا نعتز ونفتخر بالانتساب إليهم، وباختيار أسلوبهم وطريقهم المضلّ، أين نحن من سيرة الصحابة والأسلاف؟ وأين حالنا من حالهم؟ وما أثر الحب فينا وما أثره فيهم.
*  *  *
الهوامش:
 (1) فتح الباري: قوله باب حب الرسول: 1/59، دار المعرفة، بيروت.
(2)   التوبة : 24.
(3)   صحيح البخاري: حب الرسول –صلى الله عليه وسلم-، حديث: 15.
(4)    مسند احمد: حديث عبد الله بن هشام، حديث:18076.
(5)    آل عمران: 31.
(6)    النساء: 64.
(7)    الحشر: 7.
(8)    صحيح البخاري: باب الاقتداء بسنن رسول الله -ﷺ- ، حديث: 6854. 
(9)    صحيح البخاري: باب الاقتداء بسنن رسول الله -ﷺ-، حديث: 6852.
(10)    آل عمران: 31.
(11)    النساء: 65.
(12) تفسير ابن كثير، سورة النساء: 2/349، دار الطيبة للنشر والتوزيع.
(13) صحيح البخاري: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، حديث: 6825.
(14)    صحيح البخاري: باب صب الخمر في الطريق، حديث: 2464.
(15)    سنن أبوداود: باب في تقبيل الحجر، 1875.
(16)    الشفاء: 2/10، دار الكتب العلمية، بيروت
(17)    المرجع السابق: 2/18.
(18)    فاطر: 10.
(19)    المرجع السابق.
(20)    الأحزاب : 21.
(21)    حلية الأولياء: 10/257، دار الكتاب العربي، بيروت
(22)    النور: 63.
(23)    ابن ماجه : باب ذكر الحوض، حديث: 4306.
(24)    صحيح البخاري: باب الترغيب في النكاح، حديث:4776.
(25) صحيح البخاري: باب مقدم النبي وأصحابه المدينة، حديث: 3925.
(26)    مجمع الزوائد : من يطع الله والرسول، حديث: 10937.
(27)    جلاء الفهم: 1/447، دار العروبة ، كويت.
(28)    الشفاء: 12/17.
(29)    صحيح البخاري: باب رفع الصوت في المساجد، 458.
(30)    حلية الأولياء: 2/147، وسير أعلام النبلاء: 5/354، محبة النبي وتعظيمه، عبد الله بن صالح الخضيري، عبد اللطيف بن محمد الحسن، مكتبة الملك فهد.
(31)    التوبة: 128.
(32)    الأنبياء: 107.
(33)    الشورى: 23.
(34)    صحيح مسلم: باب تحريم سب الصحابة، حديث: 222.
(35)    المجادلة: 22.


(*)          وادي مصطفى ، شاهين نغر، حيدرآباد ، الهند.
             رقم الجوال : 09550081116
        Rafihaneef90@gmail.com

Tuesday 6 September 2016

حقوق الخادم في الإسلام، مقالة طبعت في مجلة الداعي الصادرة عن دار العلوم ديوبند، مفتي رفيع الدين حنيف القاسمي، mufti rafiudddin haneef qasmi

ISSN: 2348 – 9472 (Online)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة  1437 هـ = سبتمبر 2016م ، العدد : 12 ، السنة : 40

دراسات إسلامية

حقوق الخادم في الإسلام
بقلم:  الأستاذ رفيع الدين حنيف القاسمي(*)



     الخدم نعمة من نعم الله عز وجل، أنعم الله علينا بوجودهم... إنّهم إخواننا وأخواتنا، جعلهم الله تحت أيدينا، وأخضعهم لنا، واختبرنا بوجودهم في بيوتنا، يبيّن الله عز وجل الأواصر بين الخادم والمخدوم، ويعدّها من نعمه الغالية الثمينة التي أسبغ بها علينا فيقول الله  عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾(1). فعلينا أن نحافظ على حقوق الخادم، ومنها:
* الرفق وعدم تعنيفه وتوبيخه:
     ولنا أسوة وقدوة حسنة في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي كان يعامل خدَمَه بمنتهى الرفق واللطف، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمتُ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيعته فلامني، فإن لامني أحد من أهل بيته إلا قال: دعوه، فلو قدر أو قال:  لو قضي أن يكون كان(2).
* النصح له واحترام رأيه:
     إن الخادم بشر مثلنا، وله عواطف وتطلعّات، فهو يعاني مثلما نعاني الشدائد والمحن، وربما أشد وأكثر منا، فلا نحتقر أن ننصح له ونقدمّ له المشورة، ثم نحترم رأيه واختياره، نرى ذلك الموقف في قصة «بريرة»، كانت أمةً عند السيدة عائشة -رضي الله عنها- أعتقتها السيدة، فأصبحت حرّة، فخيّرت بين الاستمرار مع زوجها «مغيث» أو الانفصال عنه، فاختارت الانفصال عنه، رغم حب «مغيث» الشديد لها، فيقول لها النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لو راجعته». قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع». قالت: لا حاجة لي فيه(3).
     فتأمل – رحمـك الله - كيف نصح النبي –صلى الله عليه وسلم- بريـرة، ثم احتـرم رأيها، وما سلّط عليها رأيه فقط.
* عدم ضربه وإهانته:
     إن هناك كثيرين يُهينون الخدم إهانة بالغة، بالسب، والشتم، والضرب، والركل، واللطم وسائر أنواع الإهانة والتذليل، وهذا موقف حدث أمام  النبي –صلى الله عليه وسلم-، قال أبو مسعود البدري: كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي «اعلم أبا مسعود». فلم أفهم الصوت من الغضب - قال - فلما دنا مني إذا هو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود». قال: فألقيت السوط من يدي فقال: «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام». قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا(4).
* السمر معه والانبساط وإدخال السرور عليه بالحديث:
     إن التواضع للخدم بالسمر معهم، والتحدث إليهم، وإدخال السرور عليهم كأصدقاء وخلّان مقربين من شيم أهل المروءة والأخلاق الفاضلة، فعن أبي مويهبة مولى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: بعثني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل، فقال: «يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي»، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى» قال: ثم أقبل علي فقال: «يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة» قال: قلت: بأبي وأمي، فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: «لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة»(5).
*  الأكل معه:
     من الأخلاق الفاضلة أن نحرص كلّ الحرص أن يأكل الخادم معنا؛ لأنه تكابد الحرّ و تحمّل الدخان في صنع الطعام، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعده معه أو ليناوله منه؛ فإنه هو الذي ولي حرّه ودخانه»(6).
* العفو عنه:
     الإنسان مركب من الخطأ والنسيان، فهو عرضة للخطأ والزلل، ربّما أخطأ الخادم، وتكرّرت أخطاؤه، فالمطلوب منا أن نصبر عليه، وأن ننصحه، و نبادر في العفو عنه، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- في ذلك قال: جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام،  فصمت،  فلمّا كان في الثالثة قال: «اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة»(7).
* العطف والتراحم عليه:
     إن الخدم أولى الناس بالرفق واللينة واللطف، خاصة في أوقات الشدة، وفي المناسبات الاجتماعية، وبالرعاية والتعاهد لأحوالهم وحاجياتهم، عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال لي: يا ربيعة، ألا تزوج؟ قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحبّ أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: يا ربيعة، ألا تزوج؟ فقلت: ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحبّ أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: والله لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني، والله لئن قال: تزوج  لأقولن: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت، قال: فقال: يا ربيعة، ألا تزوج؟ فقلت: بلى مرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان - حي من الأنصار - وكان فيهم تراخ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فقل لهم: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة -لامرأة منهم- فذهبت فقلت لهم: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة. فقالوا: مرحبًا برسول الله، وبرسول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والله لا يرجع رسول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا بحاجته فزوجوني وألطفوني(8).
* خفض الجناح له وإكرامه بالوعظ الحسن وبالدعاء:
     لا بد لنا أن نلين الجانب للخادم، ونكرمه بالوعظ الحسن، وندعو له بالخير، وهو من سنة نبينا –صلى الله عليه وسلم- عن ربيعة كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سل». فقلت أسألك مرافقتك في الجنة. قال: «أو غير ذلك». قلت: هو ذاك. قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السجود»(9).
خلاصة القول:
     إن الخادم جزء من المجتمع الإنساني، وهو يحمل في جسمه القلب الخفّاق، ويكنّ في نفسه التطلّعات والطموحات، وله حاجيات مثلنا، فعلينا رعاية حقوقه، والتعاهد بإتمام متطلّباته، فنعامله بالرفق واللين، ونحذر كل الحذر التعنيفَ والتوبيخ، ونقدمّ له النصح، ونحترم آراءه، ولا نهينه بالضرب واللطم والشتم،  فلنحرص كل الحرص على إدخال السرور عليه، بالمحادثة والسمر معه، ونشاركه في طعامه، وأن نعفـو ونصفـح عن الزلَل والخطايا، وأن ندعو له، ونربِّيه بالوعظ والموعظة الحسنة وغيرها.
*  *  *
الهوامش:
(1)      الأنعام : 165.
(2)      مسند أحمد بن حنبل: مسند أنس بن مالك، رقم الحديث: 13442.
(3)      البخاري، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 4979.
(4)      صحيح مسلم: باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، رقم الحديث: 4396.
(5)      مسند أحمد، حديث أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 16040.
(6)      سنن ابن ماجه: باب إذا أتاه خادمه بطعام فليناوله، رقم الحديث: 3291.
(7)      أبوداود: باب في حق المملوك، رقم الحديث: 5166.
(8)      مسند أحمد، حديث ربيعة بن كعب الأسلمي، رقم الحديث: 16627.
(9)      صحيح مسلم: باب فضل السجود والحث عليه، رقم الحديث: 489.


(*)  شاهين نغر، الحيدرآباد، الهند.

Saturday 20 August 2016

الإسلام والأمن العالمي، مفتي رفيع الدين حنيف القاسمي، وادي مصطفي شاهين نغر، حيدرآد ، هذه مقالة جاءت طبعها في مجلة شهيرة صادرة عن دار العلوم ديوبند باسم الداعي.

ISSN: 2348 – 9472 (Online)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة  1437 هـ = أغسطس – سبتمبر 2016م ، العدد : 11 ، السنة : 40

دراسات إسلامية

الإسلام والأمن العالمي
بقلم: الأستاذ رفيع الدين حنيف القاسمي (*)



إنما جاء الإسلام لنشر التشريعات والتوجيهات الإسلامية التي تضمن للإنسانية الأمن والسلام على وجه المعمورة، ولتحقيق العدالة في هذا الكون قاطبة، من غير تفريق بين جنس وجنس آخر، جاء الإسلام ليغرس السلام، السلام الإيجابي الذي يرفع الحياة ويرقيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكل شيء، ويدع المبادئ العليا تُداس في سبيل العافية والسلامة، السلام النابع من التناسق والتوافق، المؤلف من الطلاقة والنظام، الناشئ من إطلاق القوي والطاقات الصالحة البانية، ومن تهذيب النزوات والنزعات، لا من الكبت والتنويم والخمود، السلام الذي يعترف للفرد بوجوده وبنوازعه وبأشواقه، ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها، وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها، وبالدين والخلق والمثل، كلها في توافق واتساق.
     * إن الإسلام ارسخ في قلوب العباد العقيدة الصافية التي يربط بينه وبين ربه مباشرة، لا يدخل فيها كاهن ولا قسيس، فيحس الفرد أنه يركن إلى القوة التي ليس فوقها قوة، والتي لا تعدلها قوة، وهي أبدا حاضرة، وفي متناوله أن يركن إليها ويستعين منها، فقال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(1). وفي ظل هذه القوة تتضاءل قوة الأرض جميعا، وتتساقط أغشية العظمة الكاذبة، والجبروت الزائف.
     * علاوة على ذلك فإن الإسلام لا يكل الإنسان إلى عقيدته الروحية فقط، بل يقف بجنبه عند توفير الضمانات للأمن والسلام، فشرع الإسلام لكل فرد الأمن والسلامة من اعتداء فرد مثله عليه ، أو اعتداء حاكم عليه، فيشعر بأنه يعيش في وسط يحبه ولا يعاديه، ويحرص على ذاته وماله وعرضه فقال –صلى الله عيله وسلم- «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(2). وقال: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه وماله»(3). و«الله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»(4). وليس للحاكم عليه من سلطان إلا في حدود القانون، القانون الإلهي الذي يخضع له هو كما يخضع له السلطان على حدٍ سواء،  والذي لا يستمد من هوى الحاكم، ولا هوى طبقة ولا أمة، ولا يسن ليحقق مصلحة لحاكم أو لطبقة أو أمة؛ إنما شرعه الله تعالى إله الجميع ومالك الجميع لمصلحة الجميع، والخضوع له خضوع لله، لا لعبد من عباده، فوفّر الإسلام للإنسان في  قانونه كل الضمانات التي يحفظ عليه حياته وماله وعرضه، فلا تمس إلا بحق الله فيها، ويحميه من السخرية منه، أو التجسس عليه أو اغتيابه، أو أخذه بالظنة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾(5).
     ويضمن للإنسان الحرية في داره  فلا يتسورها عليه أحد، ولا يدخلها بغير إذنه أحد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(6).
     حتى الجريمة لا يجوز إثباتها بتسور البيوت والتجسس على الناس في مأمنهم، وقد روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - كان يَعُس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنَّى، فتسوَّر عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية. فقال: وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ؛ إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث: قال: «ولا تجسسوا» وقد تجسست. وقال: ﴿وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا﴾ (سورة البقرة، الآية:189) وقد تسوَّرت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن وقال الله تعالى: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا﴾ (سورة النور، الآية:27) قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه(7).  وهكذا لم يجد عمر أنه يملك عقابه؛ لأن «الإجراءات باطلة».
     * فأراد الإسلام أن تكون العلاقة بين الإنسان والآخر، بين الفرد والمجتمع علاقة الود والرحمة، وعلاقة التضامن والتعاون، وعلاقة الأمن والسلام، ولذلك قرّر قاعدة التناسق بين الحقوق والواجبات، والتعاون بين المغانم والمغارم، والتوازن بين الجهد والجزاء فيما بينهم، يبدأ الإسلام ببناء المجتمع في ضمائر الأفراد والجماعات، ويغرس بذرة الحب، الحب الإنساني الخالص، والرحمة الإنسانية المبرأة، إنه يردّ الناس إلى ذكرى نشأتهم الأولى من نفس واحدة، ويوقظ في وجدانهم شعور النسب والقربى، فإذا رقت جوانحهم بهذه المشاعر اللطيفة كانوا إلى السماحة أقرب، وإلى السلام أدنى، وهانت أسباب الخلاف والنزاع، وسارت عجلة الحياة في يسر ورفق وسماح ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(8). هكذا تنتظم البشرية كلها في نسب واحد، وفي إله واحد، وتختفي المنازع والفوارق، لتبرز تلك الصلة الكبرى الوثيقة العميقة التي تشمل الناس جميعا على اختلاف الملل والنحل، والأجناس والألوان واللغات والأقوام.
     * فجعل الإسلام المؤمنين أقرب رحما بعضهم إلى بعض بطبيعة الحال، بحكم أخوتهم في الله، والتقائهم في العقيدة التي يعدها الإسلام أوثق من روابط الدم، ووشائح النسب «إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(9)... وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي»(10). وأولئك يهتف بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» وينوط الإيمان فيهم بالحب، لا يفرق بين المرء وأخيه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ويحرم عليهم الخصومة أكثر من ثلاث ليال يفثؤُن فيها غضبُهم ثم يثوبون إلى المودة والقربى: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، والأمن والسلام والرحمة ليست مطلوبة بالمسلمين وحدهم؛ ولكنها للآدميين جميعا: «ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء»(11). بل يخطو الإسلام بوجدان الرحمة خطوته الكبرى فيتجاوز بها عالم الإنسان إلى عالم الأحياء، فيشيع في القلب البشري بشاشة ذلك الوجدان، ورقته وانعطافه تجاه كل ذي حياة، يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟  قال: نعم ، في كل كبد رطبة أجر»(12).
     * ويحقق الإسلام الحب والصفاء في النفوس والقلوب، فإنه يأخذ المسلمين بآداب نفسية وآداب اجتماعية تعين على هذه الغاية، وتمنع أن تثور الأحقاد في النفوس، أو تغمر البغضاء القلوب، ولذلك يكره الكبر والخيلاء ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(13). وقال في موضع آخر: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾(14). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد»(15).
     والإسلام يلحظ في هذا طبائع الناس، فهي تكره المتكبرين، وتبغض المختالين، وتضيق بالمفتخرين المتباهين، وتحمل الغيظ والحنق والتبرم بهؤلاء الناس، ولو لم يقدموا لأحد مساءة شخصية؛ لأن مجرد تظاهرهم على هذا النحو يثير في الآخرين كبريائهم، ويحفزهم إلى الرد عليهم بكرههم والتبرم بهم دون شعور.
     * إن الإسلام يراعي أدق مشاعر النفس، فينهى أن يتناجى اثنان في حضرة ثالث لا يشترك في الحديث: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يؤذيه»(16). وهو أدب نفسي عال لطيف.
     ومن هذا الباب النهيُ عن المنّ بالمعروف والصدقة، فالمنّ خلق خسيس في ذاته، مؤذٍ لكرامة الآخرين كذلك، ولهذا فهو يمحق الصدقة ويذهب بالمعروف، ويحلّ النقمة والموجدة محل الشكر والاعتراف: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْـمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(17).
     ولا يقف نبي الإسلام عند الحدود السلبية في هذه الآداب؛ بل يدفع إلى الصورة الإيجابية منها لإضافة شعور الود وإحساس الألفة، فهو يدعو إلى إشاعة الكلمة الطيبة بين الناس: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(18).... ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾(19). ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾(20)... وإلى إفشاء السلام في كل مكان ولكل إنسان، على معرفة أو على غير معرفة، تأليفا للقلوب، وإشاعة للطمأنينة: «يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد، والقليل على الكثير»(21)،. وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام أفضل؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»(22). وإلى مقابلة السيئة بالحسنة ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(23)... ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(24).
     * وهو يدعو إلى الصفح عن المساءة وضبط النفس عند الغضب، وجهادها لتعفو وتغفر، وينعدم ما بها من انفعال، ويحل محله السماح ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(25).... ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(26)... ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾(27). ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.
     * وهو يدعوا إلى السماحة في المعاملة بيعا وشراء واقتضاء: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى»(28).  وإلى الأمانة في التبادل: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾(29). وإلى النصح في التجارة: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما»(30).
     كذلك ينأى بالمسلمين عن مثيرات الأحقاد ومورثات الضغائن كمجالس القمار، حيث ترتفع درجة الأحقاد في النفوس، وتهبط تبعًا للكسب الحرام والخسارة الوبيئة، وكمجالس الشراب حيث لا ضابط للنزوات والهفوات من عقل أو إرادة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾(31).
     هكذا قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بدوره في تصفية جو الحياة، وإشاعة المودة والألفة في النفوس، وساعد في بناء السلام في المجتمع وفي العالم كله في عالم الواقع وعالم الشعور.
     * ثم يربط  الإسلام الأفراد في المجتمع بعد ذلك برباط المصلحة المشتركة، ويقوي في نفوسهم شعور التعاون والتضامن، وشعور الواجب المفروض عليهم جميعا، لصالحهم جميعا، ويقيم حدود الحرية الفردية عند المصلحة المشتركة، ويشعر الجميع بأن هناك أهدافًا مشتركة لا ينهض بها الفرد وحده، ولا بد من التعاون لبلوغها بين الجميع: «كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال بيته ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته»(32). ... (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»(33).
     * والجماعة مسؤولة عن رعاية الضعاف فيها وكفالتهم وحمايتهم في أنفسهم وفي أموالهم ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾(34).... ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(35). ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾(36). وفي الحديث النبوي الشريف: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث... وإن أربع فخامس أو سادس»(37).... «من كان معه فضلُ ظهر فليعد به على من لا ظهر له؛ ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له»(38).
     * ولتحقيق مبدإ التعاون حرم الربا لما يثيره من الأحقاد في الجماعة، فليس يخنق النفس أكثر من أن يلجأ المحتاج إلى ذي المال، فينتهز الفرصة السانحة والضرورة المحوجة، ويفرض على أخيه ضريبة حراما، وثمنا للمال يتقاضاه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْـمَسِّ﴾(39).... ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾(40).
     * إن المال ينبغي أن يعطى المحتاجين قرضا بلا فائدة، لتشيع في الجماعة روح المودة والرحمة، وروح التعاون والتضامن: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾(41). ولتكن السماحة طابع الاقتضاء بلا تعسر على المدين ولا إرهاق، فلذلك هو اللائق بجماعة الإنسان.
     * ولتحقيق ذلك المبدإ كذلك حرم الإسلام الاحتكار، ولعن المحتكر، فهم ينتهزون الفرص، يستوفون أرباحهم الفاحشة من دماء المستهلكين فيثيرون حفيظتهم ويشيعون في الجماعة روح التباغض، ويقتلون بذور التعاون: «من احتكر فهو خاطئ»(42).  ... وحرم الغش وتطفيف الكيل والميزان: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾(43). «من غش فليس منا»(44)... وحرم أن يبخس الناس أشياءهم ويعطوا دون قيمتها التي تستحق، وعد ذلك فسادا في الأرض ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(45).
خلاصة القول:
     إن الإسلام أمر بتعليماته، ومبادئه الإسلامية والأخلاق الفاضلة، التي تضمن للإنسانية على هذه المعمورة الأمن والاستقرار، والطمأنينة، والحيوية في جميع نواحيها، فلا يبغض أحد أحدًا، ولا يحسد أحد أحدًا، ولا ينظر أحد إلى أحد بعين الحقد والكراهة، فتفشو السلامة والأمن في أرجائها، فقضى على الصراع القائم بين البشر، ووصل بهم إلى ذروة المودة والوئام، والتضامن، وأخرجهم من واقع الضيق الذي يحي الإنسان حياته في دائرته، فأخرج الفرد، والقوم من جحر الغايات الصغيرة القريبة، ليطلقها في مجال الأهداف السامية العليا.. وأطلقها من مضيق العمر الفردي القصير إلى فضاء الحياة العامة الكبرى، ومن مجال النظرية أو القومية الضيقة إلى آفاق الإنسانية الرفيعة الشاملة، فشعر بذلك الإنسان أنه لا يعيش لذاته، وإنما يعيش للإنسانية جميعا، وجعلت تحس الجماعة لا تحيا لهذا الجيل وإنما تحيا للبشرية قاطبة، وأوصى الإنسانية أنهم مكلفون أن يجاهدوا في الله لتصبح كلمة الله هي العليا، ولتصبح الأرض سلاما لا فتنة فيها، وليصبح الناس عبيدًا لله وحده: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾(46). وهم مكلفون حماية الضعفاء ودفع الأذى عنهم، ومنحهم الأمان ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾(47).
     وهم مكلفون أن يغيروا المنكر، يقع من حاكم أو من رعية، من فرد أو جماعة، فهم جند الله في الأرض، وبهم صلاحها، وعليهم تبعة إزالة الآثام منها: «من رأى منكم منكرا فليغيره»(48)... وإلا حل بهم الدمار وحق عليهم العذاب: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه»(49).  وفي هذ الجو يستطيع الفرد أن يحقق ذاته، ويحقق رغبة الاستعلاء في نفسه، دون أن يضطر في ذلك للنزاع الفردي والشحناء، وإلى العراك الداخلي والبغضاء.
*  *  *
الهوامش:
(1)      البقرة: 186.
(2)      الترمذي: حديث: 2515، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(3)      مسلم: باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، حديث: 2564.
(4)      البخاري: باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث: 5670، ط: دار ابن كثير، بيروت.
(5)      الحجرات: 11-12.
(6)      النور: 27.
(7)      مولانا يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة: تسور عمر على مغني بيته: 3/149.
(8)      النساء: 1.
(9)      سورة الحجرات: 10.
(10)    مسلم: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، حديث: 2586.
(11)    أبوداود: باب في الرحمة ، حديث: 4943، ط: دارالكتاب العربي، بيروت.
(12)    البخاري: باب فضل سقي الماء، حديث: 2234.
(13)    لقمان: 18-19.
(14)    سورة الاسراء: 37.
(15)    أبوداود: باب في التواضع، حديث: 4897.
(16)    البخاري: باب لا يتناجي اثنان دون الثالث، حديث: 5930.
(17)    البقرة: 264.
(18)    الإسراء: 53.
(19)    البقرة: 83.
(20)    النساء: 86.
(21)    البخاري: باب تسليم القليل على الكثير، حديث: 5877.
(22)    البخاري: باب إطعام الطعام من الإسلام، حديث: 12.
(23)    فصلت: 34.
(24)    البقرة: 63.
(25)    الشوري: 43.
(26)    التغابن:14.
(27)    آل عمران: 134
(28)    البخاري: باب السهولة والسماحة في الشراء، حديث: 1970.
(29)    البقرة: 283.
(30)    البخاري: باب إذا البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، حديث:2004.
(31)    سورة المائدة: 91.
(32)    البخاري: باب العبد راع في مال سيده، حديث: 2419.
(33)    البخاري: باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه.. ، حديث: 2361.
(34)    الضحي: 9-10.
(35)    الضحي: 9-10.
(36)    الماعون:1-3.
(37)    البخاري: باب السمر مع الضيف والأهل، حديث: 577
(38)    مسلم: باب استحباب المؤاساة بفضول المال، حديث: 1728.
(39)    البقرة: 275.
(40)    البقرة: 278-279.
(41)    البقرة: 280.
(42)    مسلم: باب تحريم الاحتكار في الأقوات، حديث: 1605.
(43)    المطففين: 1-3.
(44)    الترمذي: باب كراهية الغش في البيوع، حديث: 1315.
(45)    سورة: 85.
(46)    الأنفال: 39.
(47)    النساء: 75.
(48)    مسلم: باب بيان كون النهي عن المنكر...حديث: 49، ط: دارالجيل، بيروت.
(49)    ابن ماجه: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث: 4005، ط: دارالفكر، بيروت.
*  *  *


(*)          وادي مصطفى، شاهين نغر، حيدر آباد.

مولانا غیاث احمد رشادی، امت کا ایک دھڑکتا دل، MOLANA GAYAS AHNMED RASHAdI

  مولانا غیاث احمد رشادی، امت کا ایک دھڑکتا دل رفيع الدين حنيف قاسمي، اداره علم وعرفان ، حيدرآباد در نایاب، یگانہ روزگار ، ممتازفعال، مت...