مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1438 هـ = ديسمبر 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 41
دراسات إسلامية
من مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم: الأستاذ/ رفيع الدين حنيف القاسمي (*)
كلّ يدّعي منا أنه يحب الرسول –صلى الله عليه وسلم- ويكرمه ويجلّه، ويتبنّى أسوته. وحين نقوم بالموازنة بين قوله وعمله نجد بينهما بونًا شاسعًا، وهو يختار لنفسه المناهج الأرضية، والقوانين الوضعية تاركًا سنن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهديه وأسوته، ونابذًا لها وراء ظهره، سلوكه المأساوي الشنيع هذا ينقض دعواه بأنه يكرم سيد البشرية، ويتأسى به في كل قوله وفعله. والحب الصادق له مقتضيات، الحب الصادق له شروط، فمن طبقها في حياته فهو محب صادق حقًّا، فيقول الشاعر : من يدعي حب النبي –صلى الله عليه وسلم- ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس بديعُ
لو كان حبّك صادقًا لأطعته
إن المحب لمـن يحب يطيــع
إن من أحبّ شيئًا آثر موافقته؛ وإلا لم يكن صادقًا في حبه، وكان مدعيًا فقط، فالصادق في حب النبي –صلى الله عليه وسلم- من تظهر علامة ذلك عليه، قد تحدث علماء الأمة عن علاماته، فيقول القاضي عياض: «ومن محبته نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمنى حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه». ويقول الحافظ ابن حجر: «ومن علامة الحب المذكور أن يُعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه، أو فقد رؤية النبي –صلى الله عليه وسلم- أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد؛ بل يأتي مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).
أولًا : لزوم محبته صلى الله عليه وسلم:
ومن مقتضيات حب النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يكون حبه أزيد من حبه لأولاده وأمواله وسائر دنياه. فقد قال الله -عز وجل-:﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰسِقِينَ﴾(2). فيكفي هذه الآية الكريمة دليلًا على وجوب حب الرسول –صلى الله عليه وسلم- أكثر من كل شيء في الــدنيا، وإلا تعــرضـوا لإيعـــاد الله -عز وجل- بقوله «فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِي الله بأمْرِه» وقال عنهم: وهم الذين حادوا عن طريق الهداية وسلكوا طريق الغواية.
وهناك أحاديث أخرى تشير إلى وجوب حب الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس رضي الله عنه: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(3).
وكذلك عن زهرة بن معبد عن جده قال: كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو آخـذ بيــد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا نفسي. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه»، فقال عمر: فلأنت الآن والله أحب إليّ من نفسي فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «الآن يا عمر»(4).
ثانيًا: الاقتداء به والاستنان سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله﴾(5). لا بد للمحب أن يقتفي آثاره –صلى الله عليه وسلم- ويتبع هديه، ويؤثر شرعه ويقدمه على هوى نفسه.
ثانيًا: وجوب طاعته –صلى الله عليه وسلم-:
إن الله -عز وجل- جعل طاعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- طاعته، ووعد على طاعته –صلى الله عليه وسلم- الثواب الجزيل، والأجر الوفير، كما أوعد على مخالفته بسوء العقاب، فأوجب امتثال أمره واجتناب نواهيه، فقال الله عز وجل: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاعَ الله»(6). كما جاء في الكتاب المجيد: ﴿وَمَا اٰتٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهٰكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(7). وقال السمرقندي في ذلك: أطيعوا الله في فرائضه والرسول في سننه. وقيل: أطيعوا الله فيما حرّم عليكم، والرسول فيما بلغكم. ويقال: أطيعوا الله بالشهادة له بالربوبية، والنبيّ بالشهادة له بالنبوة. وإليكم بعض الأحاديث الواردة في وجوب طاعته، فقد ورد عن أبي موسى -t- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء! فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق»(8). وفي حديث آخر: «كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة..... فالدار الجنة، والداعي محمد-صلى الله عليه وسلم-. فمن أطاع محمدًا-صلى الله عليه وسلم- فقد أطاع الله ومن عصى محمدًا –صلى الله عليه وسلم- فقد عصى الله ومحمد –صلى الله عليه وسلم- فرق بين الناس»(9).
ثالثًا: وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه:
ومن مقتضى حب النبي –صلى الله عليه وسلم- وجوب اتباعه، وامتثال أوامره، والاقتداء بهديه في الأمور كلها؛ لأن المحب لمن يحب يطيع ويسعى إلى فعل ما يحبه حبيبه، واجتناب ما يبغضه، فقد قال الله عزّ وجل : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(10). يعني يغفر الله لهم إذا اتبعوه وآثروه على أهوائهم، وما تجنح إليهم نفوسهم، وقال في موضع آخر: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(11). يقول ابن كثير في تفسير الآية: «يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول –صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ أي: إذا حكموك يطيعوك في بواطنهم فلا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادوا له في الظاهر والباطن، فيسلموا لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»(12).
كان الصحابة والسلف الصالح حريصين على اتباع سنن الرسول –صلى الله عليه وسلم- من غير أن يبحثوا عن الدلائل.
وفي رواية البخاري أن قومًا من الأنصار أسرعوا في تولية وجوههم نحو الكعبة وهم ركوع في مسجد «قبا» عند ما سمعوا تحويل القبلة(13)، ولم يترددوا في ذلك؛ بل بادروا بالتوجه إلى حيث توجه الحبيب.
كذلك في رواية البخاري لـمّا حرمت الخمر، ونادى المنادي «ألا إن الخمر قد حرمت» فأهرقوها، فجرت في سكك المدينة(14). تم ذلك كله من غير نقاش، يا له من استلام وانقياد؟
وعن عمر –رضي الله عنه- أنه جاء إلى الحجر فقبله، فقال: «إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقبّلك ما قبلتك»(15).
ورئي عبد الله بن عمر رضي الله عنه يدير ناقته في مكان فسُئل عنه فقال: «لا أدري إلا أني رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فعله ففعلتُه»(16).
وهذه سيرة الصحابة والصالحين من الأمة المحمدية يسيرون سيرته في الفرائض والواجبات، والسنن، حتى في المباحات وشهوات النفس، و قال أنس حين رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء من حوالي القصعة: «فما زلت أحبّ الدباء من يومئذ». وهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وابن جعفر-y- أتوا سلمى وسألوها أن تصنع لهم طعامًا مما كان يعجب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. وكان ابن عمر-t- يلبس النعال السبتية (وهي من جلود البقر المدبوغة بالقرظ) ويصبغ بالصفرة إذ رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك نحوه(17).
ويقول الحسن بن أبي الحسن: «عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة».( المرجع السابق) وقال سهل التستري: «أصول مذهبنا ثلاثة: الاقتداء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأعمال». وجاء في تفسير قوله تعالى: «والعمل الصالح يرفعه»(18)، أنه الاقتداء برسول الله –صلى الله عليه وسلم-(19).
وهذا أحد السلف وهو الجنيد بن محمد يقول: «الطرق إلى الله – تعالى- كلها مسدودة على الخلق؛ إلا من اقتفى أثر الرسول –صلى الله عليه وسلم- واتبع سنته ولزم طريقته؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا»(20)،(21).
رابعًا: ترك مخالفة أمره، وتبديل سنته:
ومن مقتضيات حب الرسول أن يتبع سنته، ويتأسى بسيرته، ويقتدي بهديه، فمخالفة أمره وسننه بدعة وضلالة، يستحق العبد على ذلك العذاب والخذلان من الله عزّ وجل. فقال الله - عز وجل-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(22). وفي حديث الرسول –صلى الله عليه وسلم- «ليُذادَنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ، فأناديهم ألا هلموا فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم، فأقول: ألا سحقًا سحقًا»(23).
وعن انس -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»(24).
خامسًا: كثرة ذكره له – صلى الله عليه وسلم-:
ومن مقتضيات حبه كثرة ذكره، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره، وازداد شوقه إلى لقائه، فكل محب يحب لقاء حبيبه، ويرغب في صحبته، ويحرص على مرافقته في الدنيا والآخرة. ألا ترى كيف فرح الأنصار بمقدم النبي –صلى الله عليه وسلم-، وكانوا يخرجون كل صباح إلى الحرة منتظرين قدومه –صلى الله عليه وسلم- ويجلسون هناك حتى تشتد حرارة الشمس فيعودون إلى بيوتهم، ويصف البراء بن عازب-t- فرح أهل المدينة بمقدم الحبيب –صلى الله عليه وسلم- إليهم بقوله: «فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله»(25).
وهذا صحابي جليل، يذكر موته وموت الحبيب –صلى الله عليه وسلم- فيخشى حرمانه من النظر إلى وجهه الكريم في الجنة. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليّ من نفسي ، وإنك لأحب إليّ من أهلي ومالي ، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردّ عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى نزل جبريل - عليه السلام - بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصّٰلِـحِيْنَ)(26).
قال ابن القيم: «لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبّه، تضاعف حبه وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقرّ لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقرّ لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه ،فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه(27).
خامسًا: تعظيمه وتوقيره، وإظهار الخشوع له:
ومن مقتضيات حب الرسول –صلى الله عليه وسلم- تعظيمه وتوقيره والخشوع له، قال إسحاق التُجيبي: «كان أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرّت جلودهم وبكوا، وكذلك كثير من التابعين، ومنهم من يفعل ذلك محبة له وشوقًا إليه، ومنهم يفعله تهيّبًا وتوقيرًا»(28).
ولقد حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على تعليم الناس تعظيم النبي –صلى الله عليه وسلم- ميتًا كتعظيمه حيًا، وذلك من تمام وفائه للنبي –صلى الله عليه وسلم-. روي البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-(29).
وقال مصعب بن عبد الله: «كان مالك إذا ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون» وذكر مالك عن محمد بن المنكدر: - وكان سيد القراء- «لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه»، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد - وكان كثير الدعابة والتبسم- فإذا ذكر عنده النبي –صلى الله عليه وسلم- اصفرّ لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة»(30). فمن تعظيمه –صلى الله عليه وسلم- أن لا يذكر اسمه مجردًا؛ بل يصف بالنبوة أو الرسالة، وهذا كان أدب الصحابة في ندائه فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره، فلا يقال «محمد» ولكن «نبي الله» أو «الرسول» ونحو ذلك، كذلك كلما يذكر اسمه يصلى ويسلم عليه.
سادسًا: شفقته ورأفته أمته:
ومن مقتضيات حب النبي –صلى الله عليه وسلم- شفقته على أمته ونصحه لهم، وسعيه في مصالحهم، ورفع المضارّ عنهم، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أمته، ولقد لاقى الرسول الأذى والكيد من المشركين في مكة والطائف، وقال الله عز وجل:﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(31). وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعٰلَمِينَ﴾(32).
سابعًا: محبته لمن أحب النبي –صلى الله عليه وسلم- وبغض من أبغضه:
ومن مقتضيات حب النبي –صلى الله عليه وسلم- محبته لمن أحب النبي –صلى الله عليه وسلم- من أهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار، ومعاداة من عاداهم وبغض من أبغضهم، فمن أحبّ أحدًا أحب من يحب، فمن إجلال أهل بيت النبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر مناقبهم ومحاسنهم والذود عنهم، والدعاء لهم، كما قال تعالى: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْـمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(33).
فمن محبة الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ذكر محاسنهم وفضائلهم، والكف عما شجر بينهم، ويخشى الخسارة لمن يلمز أصحابه ويلومهم في الدنيا والآخرة، ففي الحديث «لا تسبوا أحدًا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه»(34).
ومن مقتضى حب النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يبغض من أبغضه الله ورسوله، وأن يعادي ويجانب من عاداه وجانبه، من مخالف السنة والمبتدع في دينه، فيقول الله عز وجل: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾(35). وهؤلاء أصحابه –صلى الله عليه وسلم- قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاة الله، لـمّا خالفوا الله والرسول في مواقع الحرب والسلم.
خلاصة القول:
نحن الآن قد أعرضنا كثيرًا عن اتباع سنن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وتعظميه وتوقيره، والمحبة القلبية الخالصة له، وعدلنا عن سيرته وسننه، وتشبثنا بأذيال عظماء الشرق والغرب، ونهجنا منهجهم في القيادة والسياسة، وفي الفكر والفلسفة، وفي الأدب والأخلاق، ما اكتفينا بذلك؛ بل أصبحنا نعتز ونفتخر بالانتساب إليهم، وباختيار أسلوبهم وطريقهم المضلّ، أين نحن من سيرة الصحابة والأسلاف؟ وأين حالنا من حالهم؟ وما أثر الحب فينا وما أثره فيهم.
* * *
الهوامش:
(1) فتح الباري: قوله باب حب الرسول: 1/59، دار المعرفة، بيروت.
(2) التوبة : 24.
(3) صحيح البخاري: حب الرسول –صلى الله عليه وسلم-، حديث: 15.
(4) مسند احمد: حديث عبد الله بن هشام، حديث:18076.
(5) آل عمران: 31.
(6) النساء: 64.
(7) الحشر: 7.
(8) صحيح البخاري: باب الاقتداء بسنن رسول الله -ﷺ- ، حديث: 6854.
(9) صحيح البخاري: باب الاقتداء بسنن رسول الله -ﷺ-، حديث: 6852.
(10) آل عمران: 31.
(11) النساء: 65.
(12) تفسير ابن كثير، سورة النساء: 2/349، دار الطيبة للنشر والتوزيع.
(13) صحيح البخاري: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، حديث: 6825.
(14) صحيح البخاري: باب صب الخمر في الطريق، حديث: 2464.
(15) سنن أبوداود: باب في تقبيل الحجر، 1875.
(16) الشفاء: 2/10، دار الكتب العلمية، بيروت
(17) المرجع السابق: 2/18.
(18) فاطر: 10.
(19) المرجع السابق.
(20) الأحزاب : 21.
(21) حلية الأولياء: 10/257، دار الكتاب العربي، بيروت
(22) النور: 63.
(23) ابن ماجه : باب ذكر الحوض، حديث: 4306.
(24) صحيح البخاري: باب الترغيب في النكاح، حديث:4776.
(25) صحيح البخاري: باب مقدم النبي وأصحابه المدينة، حديث: 3925.
(26) مجمع الزوائد : من يطع الله والرسول، حديث: 10937.
(27) جلاء الفهم: 1/447، دار العروبة ، كويت.
(28) الشفاء: 12/17.
(29) صحيح البخاري: باب رفع الصوت في المساجد، 458.
(30) حلية الأولياء: 2/147، وسير أعلام النبلاء: 5/354، محبة النبي وتعظيمه، عبد الله بن صالح الخضيري، عبد اللطيف بن محمد الحسن، مكتبة الملك فهد.
(31) التوبة: 128.
(32) الأنبياء: 107.
(33) الشورى: 23.
(34) صحيح مسلم: باب تحريم سب الصحابة، حديث: 222.
(35) المجادلة: 22.